عنوان جانبي

  • وسأعود فأقول :
  • لم يعرف معاني الكلام من لم يقرأ في وحي القلم

الأحد، 17 أبريل 2011

هل في النار ملائكة ؟ حوار مع ملحد



ذات يوم ، سألني صديق ملحد ممن لا يؤمنون بشيء سوى أنفسهم سؤالاً عجيباً

يقول فيه : يا صاحبي هل تستطيع وأنت مطلع على القرآن أن تخبرني :

هل في النار ملائكة أم لا؟

وهذه النار العظيمة ليس يحرسها سوى تسعة عشر ملكاً فقط ؟

وكيف لهؤلاء أن يتولوا عذاب كل البشر الذين تقولون أنهم كفار وأنهم سوف يدخلون النار لأنهم غير مسلمين ؟

ألا ترى في عرض القرآن لهذه القصة استخفافاً بعقول البشر ؟!

فكتبت إليه هذا الجواب :

السلام عليك يا صديقي ، لقد سألتني عن أمر أطلتَ فيه البحث من غير طريقه ، وأتعبت عقلك في الشك الذي لن يصل بك إلا إلى مزيد من التعب والنصب في الدنيا والآخرة . فاقرا ماأكتبه إليك بعد أن تطرح عنك هذا الهوى الذي يعمي عن الحق ، فإن كنت طالب حق نفعك به الله ، وإن كنت داعية بدعة وقفت مع نفسك وعلمت أن هذا الدين متين وبحثت لنفسك عن غيرها ...

يا صديقي : خلق الله عز وجل النار لعذاب من كفر به ، وأوكل لهذه المهمة ملائكة مخصصين بالعذاب ، هم خلق من خلق الله لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون .

ولأنك سألتني عن القرآن ، فمن القرآن أحدثك .

الآية الكريمة التي تذكر عدد هؤلاء الملائكة نزلت بلفظ يتحدى طائفتين من الذين كفروا برسالة النبي ؛ اليهود ومشركي مكة ؛ فاليهود تحدوا النبي بذكر عدد خزنة جهنم ، فأخبرهم النبي أنهم تسعة عشر كما في قول الله تعالى :

( وما أدراك ما سقر * لا تبقي ولا تذر * لواحة للبشر * عليها تسعة عشر )

فاستهزأ المشركون ، و يروى أن أبا جهل قال للمشركين: عليكم بتسعة وأنا أكفيكم العشرة الباقين

فنزل قول الله تعالى : (وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة ، وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ، ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ، ويزداد الذين آمنوا إيمانا ، ولايرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون، وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا ، كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء ، وما يعلم جنود ربك إلا هو ، وما هي إلا ذكرى للبشر )
سورة المدثر

والآية تبين للمشركين أن أصحاب النار ( خزنتها ) هم ملائكة لا يستطيع البشر حربهم ولا دفعهم وأن قوة البشر لا تساوي شيئاً أمام قوتهم

وأن العدد المذكور جعل فتنة للكافرين الذين يتوقفون عند العدد ولا يفهمون المعنى
فالعدد مذكور بدون تمييز ..بمعنى أنه من الممكن أن يكونوا تسعة عشر ملكاً، أو تسعة عشر ألفا ، أو تسعة عشر مليوناً ..من يعلم غير الله تعالى

وعدم ذكر التمييز اختبار للإيمان ؛ فالمؤمن يقف عند ما قال الله،والكافر يبحث فيما لا ينفعه بالتنقيب عن العدد . ولو أراد الله عذابه بغير شيئ لايعجزه ذلك ، ولو أراد النار بغير خزنة لا يعجزه ذلك ؛ إذ أن الله بقدرته غير محتاج للأسباب في عطائه ومنعه ،ولا يحد قدرته عدد ملائكته سبحانه وتعالى.

ولذلك قال سعيد بن بشير أن معنى قوله ( وما يعلم جنود ربك إلا هو ) ..من كثرة هذه الجنود لا يحيط بها إلا خالقها

والجواب بذكر العدد جاء من الله ردا على اليهود؛ ليستيقنوا من صدق النبي ولا يرتابوا في رسالته، وليزداد المؤمنون إيمانا بربهم . إذ أنه يستحيل أن يعطي النبي جواباً صحيحاً يوافق ما ذكر في التوراة إلا عن طريق الوحي لأنه يخبر عن الغيب

ثم في الآية اختبار وفضح لأهل النفاق الذين يعرضون عن حقيقة التحدي ليقفوا عند ذكر العدد ويخوضوا فيه بما يضلهم عن الهدف الحقيقي .


والملائكة الذين وكلوا بالعذاب نوع من الملائكة لا تضرهم النار ولا تؤذيهم ، وتلك وظيفتهم التي خلقوا لها . ولا رحمة عندهم لأهلها ولا يستجيبون لتوسلاتهم ( وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب * قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعو وما دعاء الكافرين إلا في ضلال).

وبالتالي فخزنة النار والملائكة الموكلون بالعذاب فيها متواجدون فيها ، ومن حولها ولا يضرهم كونهم فيها، ومنهم من هو موكل بقمع من يحاول الخروج منها ( كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق )

وهم غير مخيرين في الطاعة والمعصية ، وطالما أنه ليس هناك اختيار فلا ثواب ولا عقاب ، لأن حرية الاختيار هي مناط المحاسبة وعلة الثواب والعقاب ، أي أن خزنة النار لايعذبون بها وكذا خزنة الجنة لا ينعمون بها ؛ بل كل منهم قائم بما خلق لفعله من تعذيب أهل النار أو تنعيم أهل الجنة .

والحقيقة أحب أن أغير شكل الحوار قليلا ، وأجيب عن السؤال بشكل مختلف ...

يقولون : إن إدراك الصفة يقتضي إدراك كنه الموصوف ، أو يقولون : الحكم على الشيء فرع عن تصوره

والتصور البشري عن النار وعن الملائكة لا يمكن أن يبنى إلا من خلال طريقين : طريق المشاهدة والإدراك الحسي ، أو طريق العقيدة والإيمان بالغيب الذي لا يمكن إدراك كل جزئياته في الدنيا .

بالنسبة للطريق الأول : هو طريق الملحدين ،

طريق الإيمان المادي وإنكار الغيبيات التي لا تدركها الحواس ولا يلم بها العقل ...وأصحاب هذا الفريق لا ينفعهم الجواب عن السؤال المطروح ؛ لأنه مسألة غيبية بحتة لا يؤمنون أصلا بوجودها ، فمن لا يؤمن بالنار والملائكة لن يغير رأيه إلا – هناك - حين يراها بعينه .لأنه أصلاً لا يؤمن بخالقها ، وهذا الصنف من الناس لم يفرق بين ما يستحيل وجوده وما يستحيل إدراكه . وهم بجهلهم يحكمون بالنسبي على المطلق ، ويحكمون نفس القوانين على عوالم مختلفة ، وتغاير العوالم يستتبع تغاير معايير الحكم عليها . وهؤلاء – كما يصفهم الدكتور مصطفى محمود – أشبه بالعرائس التي تتحرك بزمبلك وتتصور أن الإنسان الذي صنعها لابد هو الآخر يتحرك بزمبلك ...

فإن قلت لهم : بل هو يتحرك من تلقاء نفسه .

قالوا : لا يمكن ، مستحيل أن يتحرك شيئ من تلقاء نفسه ...

إننا نرى كل شيء في عالمنا يتحرك بزمبلك . !!

وتناست هذه العرائس أن الذي صنعها ليس من عالمها .

فالخوض في التفاصيل مع هؤلاء دون الاتفاق على الأصول ضرب من السفه لا يرتضيه العقل .

أما الطريق الثاني : وهو طريق الإيمان بالغيب...

أقول: هذه القضايا الغيبية من أمور الآخرة تحتاج أولا إلى الإيمان بكلياتها : أي الإيمان بالله ، وبالجنة ، والنار، والملائكة كغيبات موجودة لا يحيط بها الإدراك البشري لأن المحدود لايدرك اللامحدود

فلو اتفقنا على الإيمان بوجود النار وبوجود الملائكة ..فنحن نحتاج للتفصيل في صفاتها ، ووظائف الملائكة ، وعددهم ، وصفات النار وأبوابها، والحكمة منها..( وللحكمة ذكر في موضع آخر )

هذا التفصيل لا سبيل للعقل البشري في وضعه ، أو تأليفه ؛ لأنه يؤخذ فقط من طريق الوحي ..( القرآن والسنة ) . وعلى ذلك فنحن نؤمن بما ورد ذكره من تفاصيل عن الملائكة وعن النار إيمانا لاشك فيه ، لأننا أولا آمنا بالله الذي خلقها، وآمنا بصدق النبي صلى الله عليه وسلم الذي أخبر عنها....فليس هناك معنى لأن تصدق القرآن في جزء غيبى وتكذبه في جزء آخر ، لأنك حينها تحكم عقلك في جزيئات يستحيل عليه القطع فيها كما يفعل أهل الفريق الأول

أما ما لم يرد ذكره ولم يتطرق إليه الوحي ( القرآن والسنة ) بعرض تفاصيله ..فهل ننكره ؟

الجواب لا ..الجواب نتوقف فيه بمعنى لا نخوض في ذكر تفاصيله لعدة أسباب ..

السبب الأول : أنه ليست لدينا وسيلة لإدراك تفاصيل هذا المسكوت عنه ،لا بالعقل، ولا بالوحي ، فهو أمر غيبي لا يدركه العقل بطرائق الاستدلال ؛ وقد انتهى الوحي ولم يذكره ولا وحي بيننا اليوم ليفصل ما سكت عنه قديماً .

السبب الثاني : أن عدم النقل ليس نقلا للعدم ، أو عدم الإخبار ليس إخبارا بالعدم . أي عدم الإخبار بوجود صفة معينة أو وقوع حدث معين لا يعني الإخبار بعدم حدوثه، أو كما يقول علماء المنطق : إنكار وجود الصفة يقتضي إثبات وجود نقيضها

لو قلت لك أخبرني فلان أنه أكل كذا ، ثم لو قلت لك : لم يخبرني فلان أنه أكل كذا

هل يستوي المعنيان ؟ بالطبع لا: لأن الثاني يحتمل أنه لم يأكل أصلا ، ويحتمل أنه أكل ولم يخبرني .

فعدم نقل الخبر أو الصفة لا ينفي وجود هذه الصفة ، بل فقط نحن لا نعلم هل هذه الصفة موجودة أم لا. ولا نستطيع الجزم بوجودها أو بوجود نقيضها ...

ويتأكد هذا الكلام في باب الغيبيات التي هي توقيفية لا مجال للعقل في اختراع صفاتها بل تؤخذ من الوحي ، فما أثبته الوحي نثبته ، وما نفاه الوحي ننفيه ، وما سكت الوحي عنه نسكت عنه

السبب الثالث : أن الجهل بهذا المسكوت عنه لا يحدث خللا في عقيدة المسلم ، والعلم به لا ينبني عليه تغيير العمل

وكمثال هنا من السؤال المطروح ... لو عرفت أن خزنة النار داخلها أم خارجها ، هل سوف يتغير إيمانك قلة أو زيادة ؟ أنت إما مؤمن بوجود النار وملائكة العذاب أو غير مؤمن ... وهل لو عرفت أنهم داخلها سوف يزداد عملك وعبادتك ولو كانوا خارجها سوف تطمئن وتقلل من تعبدك لله ؟ أنت إما مطيع لله أو عاصي لله ...

وبالنسبة للمسلم القضية منتهية لأنه أصلا لايفكر في خزنة النار بل يفكر في النار بجملتها وعذابها ويعمل لينقذ نفسه منها ويفوز بنعيم الجنة

وكل مسألة لا يبني عليها تغير في الاعتقاد أو العمل فالخوض فيها مضيعة للوقت ؛ لأنها لاتزيد الإيمان ولا تنقصه ولاتزيد العمل ولا تنقصه ..بالنسبة للمؤمن والكافر على السواء ، وفي العلم وفي الدنيا ما هو أحق منها بالدرس والمعرفة .ولذلك أرى هذا السؤال لايزيد إيمان المؤمن ولا يغير من عقيدة الملحد ...كما أنه لن يقنع غير المسلم بصواب عقيدة الإسلام ولن يقنع المسلم بنقص عقيدته

وهناك نقطة يجب بيانها ، وهي أن الله عز وجل لا يحتاج هؤلاء الملائكة لا لحمل النار ولا لبقائها ، ولا لعذاب الكافرين ، فهذا التصور فيه نسبة النقص لله والعجز ...فهو سبحانه مستغن عن كل خلقه وكل خلقه محتاج إليه الإنس والجن والملائكة والجنة والنار

والحكمة من النار وملائكة العذاب التي حذر الله منها في كتابه فقال ( واتقوا النار التي أعدت للكافرين ) ، وقال في وصف المتقين ( يرجون رحمته ويخافون عذابه ) الخوف والرجاء معا من سمات أولي الألباب ( الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار )....

الحكمة هي تخويف النفوس التي لا ترتدع إلا بالقوة ولا تستحي من الله وتظلم الناس وتعيث في الأرض فساداً ؛ تخويفهم بأن في الآخرة صنوف من العذاب شديد لمن كذب وتجبر وظلم وطغى .

وفي الناس من لا تنفعه الكلمة الطيبة ولا يجدي معه اللين والرفق ولابد من استعمال الشدة والوعيد لتقويم سلوكه ،

وتسعد البشرية كلها بصنف من الناس رقيقة قلوبهم يرجون رحمة الله فيبذلون من أنفسهم لإسعاد الناس ورعايتهم ، وتسعد أيضا بتقييد هذا الصنف من العتاة المتجبرين فاسدي الطباع الذين قيدهم الخوف من الله وعقابه عن الفتك بالضعفاء والإفساد في الأرض

بل ونفس الشخص المؤمن أحيانا كثيرة يكون قريباً من ربه فيغلب عليه الرجاء والحياء من الله والطمع في رضوانه تعالى وقال بعض السلف عن هذه الحالة : إذا رق قلبك فنسيم الريح يذكرك بالله ،

وفي أحايين كثيرة يقسو القلب ويتبلد وينسى نعم الله تعالى ويتجاوز الإنسان حده مع نفسه ومع غيره ، وحينها يكون الزجر والتخويف علاج يرد هذا القلب لجادة الصواب ويذكر الإنسان بالآخرة وعذابها ، ليس إرهاباً له ولكن تقويماً وتذكيراً

فيتقلب القلب بين الرجاء تارة والخوف تارة كما يربي المربي الحاذق تلاميذه بين الشدة واللين فتصح تربيتهم وتستوي نفوسهم ويسعدون في حياتهم بتربية معلمهم ، ولا تربية تعدل تربية الله عز وجل لقلوب عباده فهو خلقهم وهو أعلم بهم

والحق أن أكمل الخوف والرجاء هو ما تعلق بذات الله سبحانه دون ما تعلق بالمخلوقات في الجنة والنار ، فأعلى الخوف خوف البعد والسخط والحجاب عن الله سبحانه ، كما قدم الله ذكر هذا العقاب على عقاب النار فقال ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون * ثم إنهم لصالوا الجحيم ) فكما أن خير نعيم الجنة رؤية وجه الله الكريم فشر عذاب النار الحجاب عن الله فلا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ...ثم ينالون من العذاب صنوفا وألواناً فوق الحسرة والندامة على تكذيبهم

أسأل الله أن يهيديني وإياك وأن يبعد وجوهنا عن النار ويكتبنا من أهل جنة الرضوان .

فرد علي برسالة تقول :

لقد قرأت ما كتبت ، ونزعت عن نفسي رداء الهوى ؛ وشعرت بشدة غبائي لأني لم أدرك هذا الكلام وحدي ، وأنا لا أحب أن يكون لي صديق يشعرني بأنني غبي . فليس بيننا بعد اليوم حوار . ثم أزالني من قائمة أصدقائه .

الثلاثاء، 5 أبريل 2011

وعن المحبين أكتب


حين تقرأ عن الحب والمحبين ، تجد مذهبين يطلان عليك ؛

(1)...

أحدهما يحبب لك العشق وأهله ويرسم الدنيا قفراًموحشاً لا يمكن الحياة فيه بغير حبيب أو خليل ، ويقول لك أقبل إلينا واغترف من نبعنا ؛ فماعرف الحياة ولا ذاق اللذة من لم يحب ولا شعر بسعادة الوصال إلا من اكتوى بنار الهجر والمخاصمة زماناً ثم عاد إليه محبوبه .

وإن الله قد خلق الدنيا رجلاً وامرأة ثم ركب في كل منهما انجذاباً فطرياً نحو الآخر لا يقدر أن يدفعه عن نفسه أكثر الناس تنسكاً وعبادة وتلك فطرة الله في خلقه ، فلماذا المكابرة؟

أولست يا من ترفضنا وتقبح فعلنا تجد من نفسك ذلك الميل نحو المرأة ؟ أوليس وصالها أحب إليك من كثير من متاع الدنيا؟

ولماذا تفترض فينا السهو والغفلة عن المعبود جل في عليائه ، فنحن نعبده حق عبادته حين نستجيب لفطرة خلقها ، ولا نعتدي على شرعه حين نعبر عن مكنونات صدورنا لمن نحب ، ثم لا ضير علينا بعد ذلك من متابعة القلب في حبه والنفس في أشواقها فنرتوي من المحبوب بما يدفعنا لمواصلة الحياة والتغلب على صعابها وعنائها ،

وهل في الدنيا أجمل من بسمة امرأة تعلن بها رضاها عمن تحب ؟ وهل في العهود أوثق من عهد قلبين أقسما ألايفترقا حتى الموت ؟ وهل في الوفاء مثال أعلى من وفاء المحب لمحبوبته حتى إنه ليقطع السنون الطوال عازفاً عن غيرها حتى وإن لم يظفر بها !

أي سمو للنفس تريد فوق هذا ؟وعن أي اطمئنان وسعادة تبحث إن لم تكن هذه !

أي صورة للنفس سامية تسعى إليها غير صورة المرأة تضحي بعمرها كله فداء لرجل أحبته وخبأت صورته في قلبها وملأ عليها حياتها فهي تستغني به عن غيره بل عن الدنيا كلها؟

وهل يُظَنُ في مثل هذه الملاك أن تنحدر بفكرها وقلبها إلى الرذيلة وتبيع نفسها كما تفعل غيرها ممن تملكتها شهوة الجسد فصارت متاعاً لمن أراد ، كما يزعم الزاعمون ،

كلا وألف كلا..

وماذا يريد الرجل من المراة أو ماذا تريد المرأة من الرجل غير هذا الوفاء وهذا الإخلاص ،

وهل حلت علينا المصائب إلا حين حرموا على المرأة أن تحب و أن تُحَب ، وأن تختار لنفسها شريك عمرها فتتفانى في إسعاده ويتفانى في إرضائها ، وتنجب له ذرية تسهر عليها وتربيها بعاطفة فوق عاطفة الأمومة ...بعاطفة المحبوبة التي تبتغي رضاء محبوبها في كل شيء حتى في ولده وتريد أن يكون كل ما يربطها به كاملاً مكتملاً.

فصار الرجل يبحث بعقله لابقلبه ، وصارت المرأة تفكر بعقلية التجار، بكم تبيع نفسها..وصار الزواج مشروعاً يُدرس كبناء جدار في وجه عاصفة ..

صار ضرورة من ضرورات الحياة لقتل الشهوة التي تعوق الرجال والنساء عن المضي قدماً بعد أن كان رباطاً مقدسا ً يبني أسرة مترابطة لا يفرقها إلا الموت تُخرج للدنيا نفوساً سوية متزنة ليست كأشباه البشرالتي تنتجها زيجات هذا الزمان

وحين حرموا هذا الحب وعاندوا الفطرة والغريزة ، اتبعهم الشباب فترة ثم أفاق على نباح الغريزة في داخله لا تدع له موطئاً ولا مضجعاً إلا واجهته بصورة المرأة أو بخيالات عن الرجل ..فصبر برهة ثم انكسرت نفسه على أسوار الطبيعة واندفع بعده لا حباً أبقى ولا نفساً هَذَّب ، وانغمس في حمأة الخطيئة يغترف منها ما يروى عطشه الذي لا ينتهي كشارب الماء المالح ...كلما ازداد شرباً ازداد عطشاً.


فتحطمت الفضيلة من حيث أريد الحفاظ عليها ، وانتهكت الأعراض يوم بالغ المبالغون في صونها ، وسجنت المرأة بدعوى صيانتها من التبذل والانحراف ، وحرمت من حقوقها لأنها شر مطلق يؤذي الرجل حين تقترب منه أو يراها حتى قال قائلهم : " ما للنساء والعمالة والكتابة والخطابة ، هذا لنا ، ولهن منا أن يـَبِتْـنَ على جنابة " !!!

فحبسنا الرجل والمرأة كلٌ في غرفة مستقلة ولكن من حيث لا ندري كانت كل غرفة تُطل على دار للبغاء تحوى الشر بعينه ؟ ففسد الرجل والمرأة من حيث أريد لهم الصلاح ..ولم يعد للحب النقي صورة إلا في كتابات الشعراء. وقليل هم الذين يقرأون الشعر في هذا الزمان


...(2)


ثم يطل عليك المذهب المتنسك ليدلي بدلوه ويقول لك:

ألا أيها المسكين أفق ، ولا تسمع غوايات هؤلاء الذين أرادوا للمرأة أن تكون كلأًمباحًا لهم ؛ يرتوون بها من عطشهم ويخرجونها من بيتها لتخادنهم وتملأ عليهم فراغهم ،فهم قوم لا قيمة لهم في الدنيا ولا عمل ولا أثر إلا الشعر والمجون ومجالس اللهو والتغزل بالنساء ومحاسنهم.

وعن أي حب يتحدثون ؟ وما بالهم يزينون الباطل فيلبسونه ربقة الحق ؟

فيخلطون الحب بالزواج وكأنه لابد للرجل أن يعشق المرأة سنينَ وسنين حتى تصير بينهم الألفة والمودة التى تمهد لزواجهم ،

ثم أين هؤلاء المحبين -الذين يتغنون بهم في شعرهم ويجعلونهم أئمة في مذهبهم- من الزواج ؟

هل تزوج ليلى المجنونُ ؟ وهل كان يحل لكُثير أنيخلوَ بعزة وهي زوجة غيره ؟

وهل قاد حبهم روميو لشئ غير الموت منتحراً !


ثم يقولون لك هلم اركب معنا وارتو من نبعنا الصافي...بل هو الكدر ولا صفاء فيه ولاخير

وهل يجتمع الرجل والمرأة في خلوة إلا ونادى مناد الفطرة في نفسيهما أن هلم تقرب إليها وهلم تساهلي معه ؟ ونفخ الشيطان في روع كل منهما أن تلكم اللحظة التي لا يجب أن تفوت دون اغتنام لأنها حتماً لن ترجع . وذاك نداء الفطرة الذي لا ينجو منه أحد إلا نماذج مع الشُهب سكناها وليس بيننا منها إلا الذكرى تُذكر للتأسي ،

ومانبأ يوسف وامرأة العزيز عنا ببعيد وهو لم يكن يفكر فيها أصلاً، فكيف الحال لو اجتمعا على حب وشوق ؟

إن هؤلاء يخدعونك عن نفسك لتتنازل شيئاً فشيئاً عن عرضك ولا تغضب بعدُ حين تراهم يتمتعون بأختك وبنتك ولا تقدر أن تنكر عليهم فعلهم لأنك تشرب من نبعهم .

ويزينون للمرأة الباطل بأنها لن تسعد إلا بعد التجارب العديدة ومقارنة الخِلان حتى تكون قادرة على اختيار زوج للمستقبل تطمئن لرجولته وعطفه، فتنساق المسكينة ورائهم وقد حملت ريشة ترسم بها صورة في مخيلتهاللرجل الذي سوف تعطيه نفسها، وفي هذه الصورة من كل رجل صفة ،

فمن هذا الضحك ومن ذاك الحزم ..ومن هذا العطف ومن ذاك الجرأة ، فتخرج المسكينة بعد تنقلها في أيدى المحبين بصورة صنم هو للخيال أقرب لأنه من صنع مخيلتها لا من دنيا الواقع ....

ولن تجده ما بقيت دنيا الناس...

ثم تتزوج فتقارن زوجها بهذه الصورة وتلعن فيه كل ما لا تجده من رسمتها فيتهدم البيت قبل أن يبنى لأنها بيدها هدمت الأساس قبل رفع البناء

وياليتهم يعلنونها صريحة فيتبعهم من يتبعهم عن بصيرة ، ولكنهم يلوون الحقائق ويكذبون على المنخدعين فينادون بحرية المرأة ، ولو قالوا حرية المرأة في اتخاذ الأخدان، وحرية المرأة في الخيانة ، وحرية المرأة في التعري لهان الأمر ، ولكنهم يقولون لك حرية المرأة في الحب

ومن ذا الذي نزع عنها حقها في أن تحب .؟!

ومن ذا الذي أفتي بتحريم أن يميل الرجل لامرأة بعينها ويهيم بها وتملك عليه نفسه وتصير أحب إليه من كل النساء ، بل لا يحب دونها واحدة من النساء أصلاً؟!

ومن ذا الذي أنكر أن المرأة حرة في أن تهب نفسها لمن تشاء في عزة من غير تبذل ، وأن تختار من تحب وتقسم له على الوفاء طول عمرها وتبذل في رضاه كل غال ونفيس من البسمة الوادعة التي تنير حياته إلى تربية ذريته بحب وعطف مروراً بما بينهما من غرائز الجسد وقيم الروح سواء ً بسواء !

لم يفعل هذا غير المغررون حين أرادوا رواج سلعتهم ، مع أنها ليست كاسدة بنفسها ولو روجوا لها كما هي لوجدوا لهم أتباعاً كثيرين من غير أهل البصيرة. وولكنهم علموا أن المجتمع سينكر عليهم تبذلهم ومساسهم بالأعراض وسوف يأخذ على أيديهم ويمنعهم عن غيهم ، فيضطرون إلى التخفي والسرية وهم يريدون الحرية . فالحل إذن أن يشيعوا الفاحشة في الأمة حتى لا يقدر واحد يغرف من آنيتهم أن ينهاهم عن شرابهم.

وهب أنك اتبعتهم على مذهبهم الفاحش المتبذل ، أترضى لنفسك أن تكون مثل مجنون ليلى الذي جعل نفسه عبداً لامرأة ، يقول عن حاله :


أراني إذا صليتُ يممتُ نحوها...

بوجهي،وإن كان الُمصَلى ورائيا

ومابي إشراكٌ ولكن حبها...

وعُظم الجوى أعيا الطبيب المداويا

بي اليأسُ أو داءُ الهُيام أصابني...

فإياك عني لا يكن بك ما بيا

فأنتِ التي إن شئت ِ أشقيتِ عيشتي..

وأنتِ التي إن شئتِ أنعمت ِ باليا


بل إن حال هذا العاشق المتبذل قد ظهر للناس من حوله ، فعُرف باسمها ، وفعاله تعدت المألوف، وإليك شاهد عيان يحكي عنه فيقول :


رأى المجنون في البيداء كلباً..

فــَجَــرَّله من الإحسان ذيْلا

فلاموه على ما كان منه..

وقالوا لم أنلت الكلب نيْلا

فقال دعوا الملامة ، إن عيني..

رأته يومـــاً في حـــيِّ ليْلى


وغير المجنون كثيرٌ كثير من أهل هذا الطريق الذي انتهى بهم لا بالسفه في الدنيا فحسب بل بالسفه في الآخرة أيضاً ، فذا يقول :


ولأطلبنكِ في القيامةِ جاهداً..

بين الخلائقِ والعبادُ نشورُ

فبجنةٍ إن صرتِ صرتُ بجنةٍ..

ولئن حواك ِ سعيرها فسعيرُ


(3)...


قارئي الكريم :

دع عنك الحيرة بين المذهبين واسمع مقالتي أوجزها لك ..

لايسع المرء فينا أن يعيش في الدنيا بغير حب يهون عليه الصعاب ، ولا بغير خليل يأنس إليه ويفضي له بمكنون صدره ويشاركه همه وفرحه على حدٍ سواء ، وليس أغبى من إنكار الطبع والتنسك الزائف والعناد والمكابرة لأن هذه " سنة الله في الذين خلوّا من قبلكم "


لاعيب في أن تحب امرأة بعينها وتشتهي وصلها ، ولا إثم عليها أن تبادلك نفس الشعورأو تتفرد به عنك ، ولكن العيب كل العيب أن ننساق كالحيوانات في ثورتها لا تعرف حدوداً ولا ترعى آداباً .

العيب كل العيب أن يتخذ الحب ذريعة للبغاء ، فتبذل المرأة من عرضها لهذا وذاك بدعوى الحب .. وصوتها المتكسر من عرضها ، ونظرتها من عرضها ..وبسمتها في غير موضعها من عرضها ، وليس العرض جسداً عارياً في الفراش فحسب .

إن أحببت فكن شريفاً في حبك ، شريفاً في خطواتك ، فلا تقدم على فعل يشين أوتستحي منه أمام الناس في الدنيا وأمام الله في الآخرة..

ثم الرفق بنفسك وبمن أحببت فإنك لا تدري ماذا تحمل لك الأيام أو لها ، فكم من عاشقين فرقت الأيام بينهما على حين غرة

ولتجعل لك دليلاً تحتكم إليه إن غلبتك نفسك وتحركت شهوتك ، وليس من دليل أهدى من كتاب الله عز وجل ...فسل نفسك هل يرضي الله أن أخلو بها وتخلو بي نتحادث ساعات بكلام يحرك الصخر ثم ندعي بعدها البراءة ونقول "حبٌ طاهر"

أي طهر بين جسدين ثائرين وروحين مشتاقتين وشيطان يجلب عليكما بخيله ورجله في معركة الجميع فيها خاسرون، وإن لم تخسر فيها إلا الوقت لكفى بهذا زاجراً


فاصبر حتى يقدر الله لك الخير ، ولن تنال إلا ما قدر لك مهما سعيت في غيره ،

واعلم أن في الدنيا مهام أعظم وأجل خلقت لأجلها

والطريق نحو الجنة مليء بالشوك

وإنماجعل الحب الحلال معيناً لك على اجتياز القفار

فلاتنشغل بالرفيق عن الغاية والطريق

...

كتبها: يحيى حبيب

الأمة مصدر السلطات ...نظرة تحليلية


كثيرا ما يحدث الخلط لدى الشباب حول بعض المفاهيم المتعلقة بسير الحركة الإسلامية في قضايا السياسة ، وتبنى المواقف وتوزع الاتهامات أحيانا بسبب سوء فهم الألفاظ وعدم تحرير المصطلحات ، فمثلا غالبية المتحدثين في هذه القضية من الشباب لا يستطيع التفرقة بين مفاهيم مثل التشريع و الحاكمية (أو السيادة ) وبين السلطة أو مصدر السلطة ، فلو قلت له الأمة هي مصدر كل السلطات رماك بالانحلال ورفض الشرع ؛ على أن للأستاذ العقاد كتاب ممتع "اسمه الديمقراطية في الإسلام "وضح فيه…..الفرق بين مفهوم سلطة الأمة وحرية اختيارها وبين مبدأ السيادة التشريعية أو الحاكمية بتعبير قطب والمودودي فقال نقلا عن الوزير الباكستاني اشتياق حسين قريشي قوله :

((((أما صاحب السيادة السياسية في الدول الإسلامية وغير الإسلامية فهو الشعب ، ولا يتعارض هذا القول بطبيعة الحال مع فكرة السيادة الإلهية،فالله سبحانه وتعالى سيد الكون لا راد لإرادته ، وهو صاحب السيادة في كل دولة إسلامية كانت أو غير إسلامية ، والمتحكم في مصير كل فرد من أفرادها سواء منهم من الذين يعترفون بوجوده والذين لا يعترفون به . ولكننا حين نتحدث عن السيادة فإنما نقصد السيادة العملية ، وبخاصة في الدول الكافرة ، وليس من المستحيل أن يكف أهل باكستان عن الإيمان بالله وإن كان احتمالا بعيد المنال ، ولكنهم إن فعلوا ؛ فلا يبطل ذلك السيادة الإلهية ، ولكن سلطة الشعب ستوجه الأمور في البلاد توجيها آخر .... وواضح من هذا أن الشعب صاحب سيادة - يستطيع إذا رغب أن يتخذ ماشاء من قرار سواء كان صالحا له أو غير صالح .....



ثم نقل العقاد كلاما للشيخ المطيعي قال فيه : وقال الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي مصر الذي اشتهر بالمحافظة وكراهة الغلو في التجديد :

(إن كتب الكلام (الفقه )كلها مطبقة متفقة على أن منصب الخليفة أو الإمام إنما يكون بمبايعة أهل الحل والعقد وأن الإمام إنما هو وكيل الأمة ، وأنهم هم الذين يولونه ملك السلطة وأنهم يملكون خلعه وعزله وشرطوا لذلك شروطا أخذوها من الأحاديث الصحيحة وليس لهم مذهب سوى هذا المذهب ... فإن مصدر قوة الخليفة هو الأمة وإنه إنما يستمد سلطانه منها وإن المسلمين هم أول أمة قالت أن الأمة مصدر السلطات كلها ...) أهـ


غير أن القول بأن الأمة مصدر السيادة في الإسلام لا ينبني علي أنها قد تتحول عن دينها من قريب أو من بعيد . إذ التحول عن الدين جريمة كبرى ، وليس المعقول أن ينبني على الجريمة حق من الحقوق فضلا عن حق السيادة الذي هو مصدر جميع الحقوق.

وإذا قال العلماء إن الأمة مصدر السيادة فلا تعارض بين هذا القول وبين القول بأن القرآن الكريم والسنة النبوية هما مصدر التشريع ، لأن الأمة هي التي تفهم الكتاب والسنة وتعمل بهما وتنظر فيهما لترى مواضع التطبيق والوقف والتجديدأو الاجتهاد، تقر الإمام على ما يأمر به من أحكام أو تأباه تبعا لفهمها للكتاب والسنة


ويرى الدكتور منظور الدين احمد الرئيس الأسبق لجامعة الدراسات الإسلامية في كراتشي باكستان في بحثه النظرية السياسية الإسلامية :

(أن كلمة السيادة ومرادفاتها تشير إلى فكرة وجود قوة عليا مركزية رئيسية في المجتمع البشري ؛ ففي القديم كان الملوك يحكمون بمقتضى الحق الإلهي ، وبالتالي كانت لهم السلطة السياسية المطلقة ، ولكن مع ظهور حركة القومية كحركة عامة انتقل مركز السلطة من الملوك إلى الناس ، وتبع ذلك نزاع طويل بين الناس وملوكهم । وقد نجح الناس في فض هذا النزاع لصالحهم ، وفرضوا رغباتهم في حقهم في السيادة والحكم على أساس العقد الاجتماعي كتفسير مقبول لأصل المجتمع المتحضر

وفي مجال السياسة ظهرت فكرة سيادة الشعب

وفي مجال القانون ظهرت فكرة الدولة

وبتفاعل تياري الفكر هذين ظهرت فكرة سيادة الدولة .

هذا ولم يمر المجتمع المسلم خلال تاريخه القديم والوسيط بمثل هذا المسار للتطور السياسي مما أدى إلى عدم ورود هذه التصورات للدولة । وقد أخذت المفاهيم الغربية للدولة طريقها إلى البلاد الإسلامية أثناء القرنين التاسع عشر والعشرين ، وعندما تعرضت الدولة الإسلامية للغزو الاستعماري . )


وقال في موضع آخر :

ففي ظل العقيدة الإسلامية لا يمكن لإنسان أو جماعة أن يدعي لنفسه السيادة المطلقة الكاملة لأن الحاكمية لله وحده في الكون كله ، ومعنى هذا أن السلطة السياسية في الإسلام والمجتمع الإسلامي تخضع للأحكام الشرعية الموجودة في القرآن . وهذه الأحكام تحدد للدولة المسلمة بشئونها وعلاقاتها الخارجية . وكذلك إدارة السياسة الداخلية ، وهذا يعني أيضاً أن الدولة الإسلامية لا يمكن أن تدعي السيادة التي لاتحدها حدود وإنما يخضع المسلمون أنفسهم أيا كانوا لحكم الله فهو المتصرف وحده .



نخلص مما سبق إلى التفريق بين عدة مفاهيم ظهرت إلينا مع ظهور الدولة المدنية الحديثة بتعريفاتها وأنظمتها ، ولكن في البداية يجب أن نلفت أن النظر إلى أننا أمام نظرية إسلامية قديمة طبقت على مر عدة قرون بألوان متفرقة من الخلل نتيجة للاضطرابات والانقسامات في جسم الدولة وتاريخها من سيطرة على الحكم وانقلابات وغير ذلك ؛ مما أثر بطبعه على صياغة نظرية موحدة وعلى تطبيق هذه النظرية على أرض الواقع فيما عدا فترة الخلافة الراشدة حيث بنيت النظرية أصلا بناءً على التطبيق الواقعي ،

وعلى النقيض نجد في الناحية الأخرى دولة مدنية حديثة نشأت بعيدا عن الدولة الإسلامية واستمدت مفاهيمها من مصادر غير إسلامية وهي اليوم تسود الدنيا كلها ، فكان لزاما علينا أن نتناولها بالتمحيص لنأخذ منها ما يناسب مجتمعاتنا المسلمة ولا ينافي شريعتنا وفي ذات الوقت يجاري المتغيرات العصرية في صور وأشكال الحكم ، ونترك ما يتعارض وأصول شريعتنا الثابتة. وجدير بالذكر أن بعض التيارات الفكرية ترفض الدولة المدنية الحديثة بكل مافيها وتدعو للتمسك بالصورة التي أوجدها المسلمون قديما للحكم دون تقديم حلول عملية على أرض الواقع لمشكلات تعترض الدولة الحديثة تجعل من الصعب جدا تطبيق نفس الصورة القديمة للحكم – وهي كما عرضنا لم تثبت على مدار التاريخ اللإسلامي – بل ودون التفصيل بين الثابت والمتغير في شكل الدولة الإسلامية.

ونعرض الآن لبعض هذه المفاهيم


مفهوم الحاكمية أو السيادة الحقيقية :

هي لله عز وجل وحده سواء تحاكم البشر لشرعه أم لا ، فإن هذا لا يبطل سيادته عليهم وعلى مصائرهم وهي هنا أصل عقدي لا علاقة له بالتطبيق العملي للدولة عندنا ، فالغرب ينكر هذه الحقيقة أصلا، فالله تعالى هو الرب السيد المتصرف المهيمن المتحكم في كل ذرة من خلقه أقروا بذلك أم أنكروه ، آمنوا به أم كفروه


- مفهوم التشربع :

منطقي أن من له السيادة المطلقة والحاكمية العليا هو صاحب الحق الأوحد في التشريع ، وبالتالي فالدولة المسلمة تدين لله بحق التشريع وتتبع هذا التشريع ولا تقر قانونا يخالفه ، على أن الشرع نفسه منه الثابت القطعي ومنه المتغير الذي يترك فيه المجال للاجتهاد ، ويقوم فقهاء الدين والقانون بصياغة التشريعات المناسبة لكل زمان ولكل بلد بما يناسب الظروف والأحوال ، وهذه ميزة فريدة في النظام الإسلامي تفصل بين مالله وما للعبد ، بين مجال الاتباع المطلق ومجال الاجتهاد المقيد بأصول وضوابط بحيث يسمح للدولة بنوع من المرونة وحرية الحركة ولكن داخل إطار ثابت يحفظ كيانها ويميزها عن غيرها من النظم الوضعية ।


- مفهوم السلطة :

أو مفهوم السيادة العملية ، وهو مفهوم مركب حيث تجد من الصواب أن تقول أن السلطة في الدولة المسلمة هي للشريعة التي هي مقياس الحكم على المواقف والتصرفات ، بحيث لو وافقت أفعال وتشريعات الحكومة شرع الله عز وجل اكتسبت الأحقية في البقاء والتنفيذ لأن السلطة الحقيقية هي للشرع ، نقر ما أقره وننفي مانفاه ..وهذا هو جوهر نظرية ابن تيمية عن دولة الشريعة..

ولكن أليس من الحق أن الأمة هي التي تفهم هذا الشرع وتطبقه وتقره ، أم أن الشرع ناطق بنفسه ، الحق أن السلطة الحقيقية مستمدة من إقرار الأمة بأن مايتم موافق للشرع أو مخالف له ،


((وبالتالي فإن الشرع هو المصدر الحقيقي للسلطة والأمة هي الرقيب المخول بمنح هذه السلطة للحاكم الذي نعتبره الجهة التنفيذية للسلطة)) ، وطالما أن الحاكم ينفذ الشرع ولا يخل بعقده مع الأمة تنتقل السلطة كلها إليه في شكلها العملي دون أن تفقد مصدرها من الشرع أو رقابة الأمة عليها....

وبهذا الإيضاح نجد انه لا مانع من إقرار أن الأمة مصدر السلطات لأن هذا لا يتعارض مع حقيقة سيادة الشرع وتملك الأمة بهذه السيادة أن توجه الدولة ناحية الشرع أو بعيدا عنه ، فنجد الامة الإسلامية استخدمت سلطتها واتجهت نحو الشرع تستمد منه قوانينها ، ونجد غيرها من الأمم تستخدم سلطتها لتبتعد عن الشرع وتستمد قوانينها من مصدر آخر

.

وهنا بيرز سؤال هام جدا، وهو :ماهو مفهوم الأمة؟ وهل كل الأمة تمارس هذا الحق كما هو الحال في النظم الديمقراطية، وماهو الشكل العملي الذي تمارس به الأمة حقها في السيادة أو السلطة؟؟


نجد عند الجواب صورة معاصرة للنظم الحديثة حيث تترادف الأمة والشعب ، ويكون لكل فرد حق منح الثقة للدولة أو سحبها منها عن طريق الاقتراع الحر المباشر، حيث المرشحين للمناصب الهامة وعلى رأسهم الحاكم يعرض على الشعب ببرنامجه ولكل فرد في الشعب الحق في إبداء رأيه بالتأييد أو الرفض ويكون الحكم في النهاية لغالبية الأصوات لتقرر من يفوز ومن يخسر .

وهذه الصورة تحمل في ذاتها قمة الرقي في صيانة الحريات العامة وإعطاء كل فرد من رعايا الدولة الحق في تأييد أو معارضة النظم القائمة ، كما يجبر المرشحين لتقديم أفضل ما عندهم على الدوام قبل الانتخاب وبعده ليحوزوا دائماً على ثقة الناخبين ، كما يحمي الدولة من تسلط طائفة معينة بالأمر رغماً عن الشعوب ....

ولكنها تحوي أيضاً عيباً خطيرا ، وهو أن كل شخص وكل شيء قابل للتصويت عليه والاحتكام للأغلبية ، فليس هناك شروط معينة للمرشحين وليس هناك ضوابط لما يعرض للاقتراع ومالا يعرض إلا ما قد اتفق عليه مسبقا في الدستور المعمول به ؛ هذه السلبية أدت إلى أن الشعب قد يختار الكفر أو قد يقر قانوناً لا يتناسب مع أخلاقيات الدين كما هو حادث في أوروبا مثلاً ، وقد يستغل الحكام الجهاز الإعلامي لكسب تأييد الجماهير في قضية معينة كما فعلت الإدارة الأمريكية في حرب العراق...

هذه سلبية كبيرة جداً لا يقرها النظام الإسلامي بل تحاشاها الفقه الإسلامي بالتفرقة بين الثابت والمتغير ، بين ما يجب فيه الاتباع وما يتاح فيه الاجتهاد।


وتجد على النقيض صورة أخرى من نظرية اختيار الحاكم تقضي بتوافر عدة شروط في الحاكم المرشح لا يملك حق الترشيح من لا يمتلك هذه الصفات لأن للحاكم في دولة الإسلام مهام مختلفة عن النظم الأخرى ، ثم هذا الحاكم تختاره هيئة انتخابية من أهل الحل والعقد وتبايعه ، ثم تعرضه على الأمة كبيعة عامة لتوافق عليه أو ترفضه ...

والبيعة العامة كانت من قبيل الإعلان السياسي لأن التاريخ لم ينقل لنا في فترة الخلافة – وهي فترة تطبيق هذه النظرية – أن الناس رفضوا بيعة من اختاره أهل الحل والعقد..ومن مميزات هذا النظام أن أهل الحل والعقد يضمنون عدم تلاعب المرشحين بالأمة وخداعهم لها ، فهم مجموعة من أهل العلم والشوكة والسلطة السياسية تمكنهم من معرفة إذا كان هذا المرشح أهل للقيام بمهام الحكم أم لا ، وفي نفس الوقت تضمن للمرشح المختار رضا الأمة ومبايعتها ضمانا لاستقرار الأمور وعدم نشوب الثورات..

ومن عيوب هذه الصورة أن التاريخ لم ينقل لنا هل أهل الحل والعقد تختارهم الأمة أم يعينهم الخليفة ؟ وأيضا هذه الصورة لم يستمر العمل بها سوى 30 سنة من عمر الحكم الإسلامي حيث كانت البيعة بعد ذلك شكلية وبالإكراه من عهد بني أمية ، فظهرت نظريات تقر إمارة المتغلب واتفق أهل السنة على عدم الخروج على الحاكم حفظاً للدماء والأموال واستبقاء لهيبة الدولة الإسلامية ورعاية لمصالح الناس التي قد تتضرر من كثرة الثورات على الحكام .

ولا يمكن بحال من الأحوال اعتبار ما جرى من زمن الأمويين حتى سقوط الخلافة أساس لنظرية سياسية إسلامية حيث أن شكل الحكم فيها وتداول السلطة لم يستقر مطلقاً ، ووجدت تفسيرات سياسية ودينية لكل وضع من هذه الأوضاع ، آثر بعضها الاستبداد السياسي في مقابل الحفاظ على الشريعة وقيام مصالح الرعية ، وكانت للفقهاء وجهتهم المعتبرة حينها ؛ لكن تغير الأحوال في الدولة المعاصرة يعطي بدائل أخرى غير إقرار هذا الاستبداد وغير الثورات أيضا دون المساس بالشرع


وهذه هي المعضلة الحقيقية لدى من يرفضون التعاطي مع النظم الحديثة ، إنهم يرون أن الاحتكام لهذه الصور يجعل من الدين شيئاً يعرض على العامة تقره أو ترفضه ، ويجعل من أحكام الله عرضة لنقد البشر وأهوائهم ،وأن هذه النظم لا تفرق بين ماهو شرعي وإداري والقول فيها لصوت الناخب الذي قد يكون جاهلا ً لا وزن لرأيه في ميدان الاختيار والتفضيل لما فيه مصلحة الأمة ولهم وجهة نظر فيما يذهبون إليه مبنية على التطبيق الواقعي ولكنهم لم يقدموا بديلا تطبيقياً أو حتى نظرياً سوى النظرية المثالية للخلافة التي يعرف الجميع أنها لن تأتى على مرحلة واحدة وأن لابد من قيام دولة مسلمة أولاً توحد حولها باقي الدول للنهوض بمؤسسة الخلافة، وحتى نظرية الخلافة لم نجد منهم من أفاض وشرح في الطرق العملية للعودة بالحكم ونظامه إلى هذا الشكل


والحق أن الفريق الذي يدعو لاستجلاب الصورة الديمقراطية لا يدعو لها بكل مساوئها بل لأنها البديل الوحيد العملي المطروح في مواجهة الاستبداد السياسي وتعطيل أحكام الشريعة ، وأن الواقع يشهد لبعض الحركات الإسلامية خوض هذه التجارب وتحقيق انتصارات على أرض الواقع حققت مقاصد الشرع من ضمان حقوق الرعية وإقرار بعض القوانين الشرعية أو عرقلة بعض القوانين المخالفة للشرع ؛ حقيقة أن المنجزات ليست ضخمة ولكنها خطوة ولا شك أفضل من الاعتزال والجمود في مواجهة المتغيرات والنموذج التركي كتاب مفتوح لمن أراد المقارنة،

وهذا الفريق الذي يخوض المعركة السياسة يواجه تحديأ كبيراً على أرض الواقع وهو أن يفرق في الممارسة بين ما يعرض لاختيار الناس ومالا يعرض ، بين ما حسمه الشرع وبين ما أباح فيه الاختيار . ثم تحديد من له حق الاختيار ابتداءً تبعاً لكل موضوع مطروح ؛ مثلا هل تعرض القوانين على الشعب أم على هيئات مختصة تقرها وتكون هي صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة فيها ؟ ثم هل تقتصر هذه الهيئات أو اللجان البرلمانية على الفقهاء أم تمتد لتشمل كل الفصائل حتى المعارض منها ؟

ونقول التفريق المطلوب هو في الممارسة لا في الفكر لأن أصحاب هذا الاتجاه منهم علماء وفقهاء لا يخفى عليهم مثل تلك المسائل، ولكن الممارسة السياسية تحتم على هذا الفريق بذل الجهد لإقناع الناس بفكرهم ومذهبهم وهذا ليس عسير ؛ لأن الناس الذين يدعونهم لهذه الأفكار هم نفس الناس الذين يزعم أصحاب الاتجاه الإسلامي الذي يعتزل السياسة أنهم سيعلمونهم الدين والعقيدة وسيصلون من هذه الطريق إلى النصر والتمكين ،

هم نفس الناس ، فلم لا نعود بهم إلى الله وفي الطريق نشجعهم على تأييد أصحاب العمل السياسي من الإسلاميين ليحصدوا الأغلبية التي تمكنهم من فرض وجهة نظرهم وإمضاء الشرع وتطبيقه ، فنكون بذلك جمعنا بين مزايا التيارين بدلا من المعارك الكلامية والفكرية والتنظير حول قضايا توقف عجلة السير ولا تقوم مسارها؟


ونعود لتقرير حقيقة أننا لسنا مخيرين بين الإسلام والديمقراطية بل بين الاستبداد والديمقراطية ، وإلى حين يصوغ الفريق المعتزل للسياسة نظرية واقعية مصوغة في خطوات تنفيذية تعود بالدولة المسلمة لمقاصدها الأولى يبقى أصحاب اتجاه المشاركة السياسية هم الأقوم منهجا والأقرب لمقاصد الشرع

.

كتبها : يحيى حبيب